محطة المترو

‏السَّلامُ عليكَ يا صاحبي،

‏في محطة المترو في العاصمة الأمريكية واشنطن،
‏وقف رجلٌ يعزِفُ على آلة الكمان،
‏عزفَ خمسين دقيقة متواصلة ببراعة،
‏وفي هذه الخمسين دقيقة مرَّ به أكثر من ألف شخص،
‏سبعة فقط منهم وقفوا يستمعون لعزفه،
‏والبعض ألقى إليه بالنقود وأكمل طريقه،
‏استطاع هذا العازف أن يجمع ثلاثين دولاراً،
‏ثم أُميط اللثام عن هذا المشهد الغريب،
‏لم يكن العزف في محطة المترو إلا تجربة قامت بها إحدى الجامعات،
‏أما العازف فكان “جوشوا بيل”،
‏أحد أمهر عازفي الكمان في العالم اليوم،
‏والكمان الذي كان يعزف عليه ثمنه أربعة ملايين دولار!

‏قبل أسبوع من هذه التجربة،
‏كان جوشوا يحيي حفلةً في بوسطن،
‏بيعت فيها كل التذاكر،
‏وأرخص تذكرة كان سعرها مئة دولار!

‏أحسبُ يا صاحبي أنك فهمتَ المغزى من التجربة،
‏أجل، قيمة الإنسان في غير مكانه!
‏جوشوا بيل الذي جنى قبل أسبوع ملايين الدولارات من حفلته في بوسطن،
‏لم يجمع إلا ثلاثين دولاراً في محطة مترو،
‏والشخص الذي حضر حفله الآلاف في المسرح،
‏لم يستمع إليه إلا سبعة أشخاص في محطة مترو!

‏يا صاحبي يُهان المرءُ في غير مكانه،
‏آينشتاين الذي كانت تحلمُ كل جامعات العالم بمحاضرةٍ له،
‏لو نزل إلى سوق الخضار يُحدّث الناس،
‏عن النسبية أو عن نظرية النسيج الكوني،
‏فلن يستمع إليه أحد،
‏هذا إن لم يعتبره البعض مجنوناً!

‏ومصطفى محمود رحمه الله الذي كان الوطن العربي كله،
‏يتسمر أمام شاشة التلفاز لمشاهدة برنامج العلم والإيمان،
‏كان يمرُّ بمحلات الحي الذي يسكن فيه،
‏فلا يُنقص له البائع جنيهاً من سعر شيءٍ يريدُ أن يشتريه!

‏المتنبي في قصر سيف الدولة، وعند كافور الإخشيدي،
‏ليس هو المتنبي عند الناس!
‏وأبو يوسف القاضي عند الرشيد في مجلس الخلافة،
‏ليس هو أبو يوسف في حوانيت بغداد!
‏وأحمد بن حنبل الذي جاءه بقي بن مخلد من الأندلس إلى بغداد،
‏مشياً على الأقدام ليأخذ عنه الحديث،
‏كان في بغداد نفسها من شغله رغيف الخبز عن علمه وحديثه!
‏يا صاحبي،
‏ضَعْ نفسكَ في البيئة التي تُقدرك،
‏لو عُرضت الموناليزا في سوق شعبي لن يشتريها أحد!
‏وسيف محمد الفاتح عند العامة مجرد خردة من حديد!
‏والعملة النادرة من أيام الرومان ليس لها عندي وعندك قيمة!

‏القيمة التي لها عند علماء الآثار،
‏لا تعرِضْ نفسكَ على رفِّ يُنقص قيمتك!
‏أهداني صديق لي ديوان المتنبي بخط ابن جني،
‏وفيه مداخلات بخط المتنبي نفسه،
‏لو وقع الكتاب بيد بائع فلافل لربما لفَّ به السندويشات لزبائنه!

‏والسلام لقلبك